الديمقراطية- قيم أساسية لتحقيق الحرية والعدالة والشرعية.

إذا أردت استطلاع آراء الناس حول جوهر الديمقراطية وغايتها الأساسية، فستسمع غالباً أنها معركة ضروس من أجل صون سيادة الشعب، أو التمتع بحقوق الأفراد والمجموعات وحرياتهم، أو الانتقال السلس للسلطة.
لكن الديمقراطية أبعد غوراً من مجرد أسلوب الحكم الرشيد والعادل.
تمعن في جذور الصراع الدائم داخل أي مجتمع، وستجد أن السبب الجوهري يكمن في رفض وضع اجتماعي يقوم على التوزيع الجائر للثروة والسلطة والنفوذ، وهو ما يتجلى بوضوح في الأنظمة السلطوية.
إذن، الديمقراطية هي إحدى الوسائل المتاحة في معركة التحرر من براثن الاستبداد، وهي تشبه إلى حد كبير معارك التحرر من الاستعمار الأجنبي، مع العلم أن الاستبداد ليس سوى استعمار داخلي، والاستعمار أو التبعية ما هو إلا استبداد خارجي.
إنها حرب طاحنة ضد المحتل الداخلي، سواء كان جيشاً استشرى فيه الفساد، أو جماعة متطرفة، أو عصابة إجرامية قتلت وسرقت آلاف الأبرياء، وهي من أشرس المعارك التي يخوضها الإنسان النبيل في صراعه ضد الإنسان المفترس، وذلك من أجل تحرير الإنسان الضحية.
ما هو الدافع الحقيقي وراء هذه الصراعات المحتدمة؟ وما الذي يكمن وراء المطالبة بإسقاط الأنظمة الاستبدادية؟ إنه غياب منظومة من القيم النبيلة، وعلى رأسها الحرية والكرامة والعدالة، والهدف الأسمى هو تحقيق هذه القيم السامية لتتحول من مجرد مطالب إلى واقع ملموس يعيشه الناس.
وهذا يعني بوضوح أن القيم يجب أن تكون هي السلطة العليا التي تستند إليها شرعية أي نظام ديمقراطي، وليس مجرد إرادة الأغلبية الانتخابية.
فما قيمة إرادة الشعب الإسرائيلي إذا رفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حتى لو كان ذلك نتيجة إجماع شامل وكامل، في حين أنه يرفض منح شعب آخر حقوقه المشروعة؟
إذا سلمنا بأن الشرعية الأولى لأي نظام ديمقراطي هي القيم، فإن هذا يعني أن القبول الطوعي بهذا النظام مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى التزام هذا النظام بتلك القيم، سواء توافقت مع أهواء الأغلبية أو خالفتها. وعلى العكس تماماً، كلما ابتعدت السلطة عن هذه القيم، قولاً وفعلاً، تضاءلت شرعيتها تدريجياً، إلى أن تفقد الحق في إدارة الشأن العام بشكل كامل، وخاصة عندما تتعارض مواقفها وتصرفاتها مع القيم التي أعلنتها والتي كانت أساس العقد الاجتماعي بينها وبين المواطنين.
إذا اعتبرنا القيم هي المصدر الأول والوحيد للشرعية الديمقراطية، والتي يجب أن تستمد منها كافة القوانين والمؤسسات والسياسات حقها في الوجود، فإن ذلك يثير تساؤلين جوهريين:
السؤال الأول: عن أي قيم جوهرية نتحدث؟
لقد وضعت الثقافة الغربية قيمة الحرية على رأس قائمة القيم النبيلة. إلا أنه اتضح من خلال التجارب التاريخية المتكررة في العديد من البلدان، وعلى امتداد قرنين من الزمان، أن تقديس هذه الحرية بالشكل الليبرالي المتطرف هو الذي أفرز لنا الرأسمالية المتوحشة، والتي كانت وبالاً على قيمة أخرى لا تقل أهمية لسلامة أي مجتمع وبقاء أي نظام سياسي، ألا وهي قيمة العدل.
فأي كرامة لإنسان يعيش في خضم الفقر المدقع والإذلال المهين، حتى لو كان حراً في شتم من يستغلونه أو التظاهر ضدهم؟ هكذا رأينا هيمنة الأقوى والأذكى والأكثر جرأة ومبادرة، لينتهي الأمر بنوع من الحرية المطلقة غير المسؤولة لأقلية قليلة، وتقلص الحرية عند أغلبية ساحقة تصارع من أجل البقاء على قيد الحياة.
وهكذا رأينا، باسم الحرية الزائفة، اتساع الفجوة الشاسعة بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون أي شيء على الإطلاق، حتى في أعرق البلدان الديمقراطية كأميركا وبريطانيا. ومن هذه الثغرة الخطيرة تسللت الأنظمة الاستبدادية، خاصة في حضارتنا العربية والإسلامية، لكي تتغنى بقيمة العدل باعتبارها أسمى القيم، وكانت النتيجة المأساوية هي ضياع الحرية دون تحقيق العدل المنشود.
لقد أثبتت التجارب التاريخية أيضاً أن تغييب الحرية يؤدي حتماً إلى تقلص العدل، وتغييب العدل يؤدي إلى اندثار الحرية. والاستنتاج المنطقي الذي يفرض نفسه بقوة هو أنه إذا أردنا المضي قدماً بالمشروع الديمقراطي، فلا خيار أمامنا سوى اعتبار الحرية والعدل وجهين لعملة واحدة، وأن نجعل الحرية في خدمة العدل والعدل في خدمة الحرية.
السؤال الثاني: إذا كانت القيم، أياً كان ترتيبها، هي مصدر شرعية السلطة الديمقراطية، فما هو مصدر هذا المصدر الأساسي؟
هناك اليوم مصدران لا ثالث لهما: الخصوصية الدينية والثقافية لهذه الأمة الكبيرة أو تلك القبيلة المعزولة في غابات الأمازون المطيرة، والعالمية المتمثلة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية المنبثقة عنه، والتي تشكل أساس ما يسمى بالقانون الدولي.
تكمن المعضلة الحقيقية في كيفية التعامل مع التناقضات التي قد تظهر بين المرجعيتين، وذلك عندما نريد ترسيخ القيم التي يرتكز عليها النظام الديمقراطي المنشود في الدستور. إنه التحدي الذي واجهناه عند كتابة دستور الثورة في عام 2014، وقبله في الثمانينيات عند صياغة ميثاق الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
في عام 1984، كادت الرابطة أن تنفجر بسبب الخلافات العميقة، حيث أصر العلمانيون على أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هو المرجعية الوحيدة، في حين تصدى الإسلاميون بقوة لهذا الخيار، مؤكدين أنه يتعارض في أربعة بنود مع قيم الإسلام السمحة: المساواة التامة بين المرأة والرجل (والتي ترجمت أيضاً في مسألة الإرث)، وحرية المعتقد (والتي ترجمت إلى الحق في الردة عن الدين)، والحق المطلق في الحياة (والذي ترجم إلى إلغاء عقوبة الإعدام)، ثم المساواة بين جميع الأطفال (بغض النظر عما إذا كانوا ولدوا من رباط شرعي أم لا، بالإضافة إلى السماح بالتبني).
من أجل وأد الفتنة في مهدها قبل أن تتسبب في تدمير أكبر منظمة للمجتمع المدني الوليدة، والتي كانت تخوض حرباً ضروساً ضد الاستبداد، قلت بصوت عالٍ في اجتماع صاخب للهيئة المديرة: عودوا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ستجدون أنه يتكون من ثلاثين بنداً، أربعة بنود فقط تطرح إشكالاً مع قيم تراثنا، ولكن هناك ستة وعشرون بنداً لا خلاف عليها مطلقاً، فهل نفضل، ونحن نرزح تحت القصف المدفعي للاستبداد، أن نتجمع حول الستة والعشرين بنداً التي تجمعنا، أم نتقاتل ونتفرق بسبب الأربعة بنود التي تفرقنا؟.
لحسن الحظ، تغلب صوت الحكمة والتبصر، وتمكنا من تفادي الانشقاق المدمر بالاتفاق على إضافة ديباجة للميثاق تنص على أن الرابطة تستمد مرجعيتها من القيم التحررية للتراث العربي الإسلامي، ومن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لكن هذا لم يمنع من انطلاق صراع خفي بين الخصوصية الثقافية والعالمية في ميدان القيم، والذي تجسد طيلة التسعينيات في طوفان من الإعلانات الإسلامية والعربية والأفريقية لحقوق الإنسان.
أذكر أنني قمت بوضع كافة هذه الإعلانات على الطاولة، وأضفت إليها حتى الوثيقة الأوروبية، وقارنت بين كل هذه النصوص ونصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لأكتشف أنها جميعها، دون استثناء، تقلص من الحقوق والحريات التي ينادي بها الإعلان. ولا غرابة في ذلك، فقد كانت وراءها أنظمة محافظة أو استبدادية أو مرجعيات دينية متخلفة.
لذلك ناديت طوال الوقت بضرورة اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كمرجع أساسي للقيم المعاصرة، فهو النص الوحيد الذي استطاعت كافة الخصوصيات الثقافية، على مر التاريخ، التوافق عليه في عام 1948، وخاصة لأنه النص الأكثر جذرية في الدفاع عن الحريات والحقوق الأساسية.
نعم، لا بد لنا في عالم معولم من مرجعية قيمية مشتركة بين كل البشر، وليس فقط نفس القوانين لتنظيم الملاحة الجوية أو حماية البحار. ولعل أهم دليل على أننا لا نخطئ الهدف في هذا الرهان هو ما حدث مؤخراً في الغرب من خروج مئات الآلاف من المتظاهرين، بمن فيهم يهود، دعماً لأهلنا في غزة.
أليس هذا أوضح دليل على وجود قيم إنسانية نبيلة في ضمائر الملايين من الغربيين، خلافاً لما ادعاه طويلاً بعض القوميين والإسلاميين المتشددين؟ ألا يتطلب منهم الأمر مراجعة أحكامهم المسبقة، وربما التخلي عنها تماماً إن كانوا منصفين ونزهاء؟
الكلمة الأخيرة: تطوير الوسائل لتحقيق الأهداف المنشودة